Devoir Tn

  • Avatar de l’utilisateur

    admin

  • Category:

    1ère année العربية

  • english

2 كليلة ودمنة

2 كليلة ودمنة وكذلك تعددت تراجم الكتاب في بعض اللغات الأوروبية (انظر جدول التراجم). سبب تعدد الترجمة في اللغة الواحدة […]

2 كليلة ودمنة

2 كليلة ودمنة

وكذلك تعددت تراجم الكتاب في بعض اللغات الأوروبية (انظر جدول التراجم).
سبب تعدد الترجمة في اللغة الواحدة أنَّه كتاب أدبي ذو قصص ومواعظ، يختلف
ُ اب في إجمالها وتفصيلها، وفي طريقة قصصها وأسلوب بيانها، فربَّما يبدو ملترجم
الكتَّ
أن يُخالف من سبقه بالإجمال والتفصيل أو التأنق في العبارة وتيسريها، وهكذا.
وهذا السبب الذي دعا إلى تعدد تراجم الكتاب في اللغة الواحدة هو الذي أدى إلى
َس َ خه وإن رجعت إلى ترجمة واحدة، فقد لقي هذا الكتاب من عناية الأدباء
اختلاف نُ
ِّ اب واملؤد ِّ بني أن ييسروا بعض عباراته
واملؤدبني ما جعله كتاب تأديب، وحاول بعض الكتَّ
ِغربوا فيها، وأن يوجزوا فيها أو يُ ِطنبوا، فكان من ذلك اختلاف نُسخ الكتاب.
أو يُ
َّ ولعل تعدد الترجمة قد يسر للناس التصرف في أسلوب الكتاب بعد قياس ترجمة
َّ بأخرى، أو سو َّ غ لهم أن يدخلوا عبارات ترجمة في عبارات ترجمة أخرى وهكذا، ولعل
34
املقدمة
ُ أسلوب ابن املقفع — وهو طويل الجمل مستغلق أحيانًا — دعا إلى تغيري كثري في متن
الكتاب.
ُ وبعد؛ فهي قضيَّ َّ ة لا بد للفصل فيها من مقايسة مخطوطات لا نستطيع الاطلاع
عليها الآن، وعسى أن تُتاح الفرصة من بعد بتوفيق الله.
(2-6 (أبواب الكتاب
ُ الأبواب التي تحتويها النسخ املختلفة من هذا الكتاب تنقسم إلى الأقسام الآتية:
(١ (املقدمات وهي: «مقدمة علي بن الشاه الفارسي»، «عرض الكتاب لابن املقفع»،
«بعثة برزويه إلى بلاد الهند»، «باب برزويه الطبيب».
(٢ (الأبواب الخمسة الأولى، بعد استثناء «باب الفحص عن أمر دمنة»، وهي الأبواب
التي يحتويها الأصل الهندي «بنج تنترا»: «الأسد والثور»، «الحمامة املطوقة»، «البوم
والغربان»، «القرد والغيلم»، «الناسك وابن عرس».
ويتبع هذا القسم باب «الفحص عن أمر دمنة»، وهو بعد باب «الأسد والثور»
ومكمل له، وباب «السائح والصواغ» وقد جاءت قصته في أثناء الباب الأول من «بنج
تنترا».
(٣ (والقسم الثالث: الأبواب الثلاثة التي تلي الخمسة املعدودة في القسم الثاني، وهي
معروفة في كتاب «املهابهارتا»: «الجرذ والسنور»، «امللك والطائر»، «الأسد وابن آوى».
(٤ (والقسم الرابع: الأبواب الأخرى، وهي قسمان:
(أ) الأبواب التي تتفق عليها النسخ وهي: «إبلاد وإيراخت وشادرم ملك الهند»،
«اللبؤة والأسوار»، «الناسك والضيف»، «ابن امللك وأصحابه».
(ب) الأبواب التي توجد في بعض النسخ دون بعض، وهي: «ملك الجرذان»، «مالك
الحزين والبطة»، «الحمامة والثعلب ومالك الحزين».
ٌ فهذه واحد وعشرون بابًا تتضمنها نسخ الكتاب على اختلافها، وإذا تركنا املقدمات
جانبًا، وأخرجنا الأبواب الأخرية التي تختلف فيها النسخ؛ بقي أربعة عشر بابًا، منها
تسعة معروفة في اللغة السنسكريتية، وهي الخمسة التي في «بنج تنترا» وباب «السائح
والصواغ» الذي يتضمنه الباب الأول من ذلك الكتاب، والثلاثة التي في «املهابهارتا»،
35
ِ كليلة ودمنة
والخمسة الباقية لم تُعرف في اللغة الهندية حتى اليوم، وهي باب «الفحص عن أمر
دمنة» والأبواب الأربعة الأولى من القسم الرابع.
ونجد في الترجمة الفارسية لنصر الله بن عبد الحميد فهرس الكتاب في نهاية باب
«بعثة برزويه» على هذه الصورة: «وكتاب كليلة ودمنة هذا ستة عشر بابًا، منها الأصلي
الذي وضعه الهند وهو عشرة أبواب، ومنها ما ألحقه الفرس وهو ستة أبواب»، ثم يذكر
العشرة الهندية، وهي خمسة الأبواب الأولى التي يتضمنها «بنج تنترا»، وباب «الفحص
عن أمر دمنة»، وثلاثة الأبواب التي في «املهابهارتا» يُزاد عليها باب «الأسوار واللبؤة»،
ِّ ويعدد املترجم بعدها الأبواب التي ألحقها الفرس، وهي بابان من املقدمات وأربعة من
أبواب الكتاب.
وهذا نسق الأبواب كلها كما ذكرت في هذا الفهرس:
الأبواب الهندية
(أ) «الأسد والثور»، «الفحص عن أمر دمنة»، «الحمامة املطوقة»، «البوم والغربان»،
«القرد والسلحفاة»، «الناسك وابن عرس»، (وهي الخمسة التي في بنج تنترا).
(ب) «الجرذ والسنور»، «امللك والطائر»، «الأسد وابن آوى»، (وهي الثلاثة التي في
املهابهارتا).
(ج) «الأسوار واللبؤة».
الأبواب الفارسية
(أ) «ابتداء كليلة ودمنة» (وهو الذي يُ َّسمى في النسخ الأخرى باب «عرض الكتاب
لابن املقفع»، وهو في هذه النسخة منسوب إلى بزرجمهر)، وباب «برزويه الطبيب».
(ب) «الناسك والضيف»، «إبلاد والبراهمة»، «السائح والصايغ»، «ابن امللك وأصحابه».
وأعرض على القارئ في الصفحات التالية تفصيل الكلام في أبواب الكتاب كلها.
36
املقدمة
القسم الأول من أبواب الكتاب: املقدمات
َّفأم ُ ا «م َ قدمة علي بن الشاه الفارسي» فلا ريب ِ أنها ز َيدت على بعض النسخ العربية بعد
ابن املقفع بقرنني أو أكثر، وقد خلت منها كثريٌ من النسخ العربية القديمة كنسختنا
َّ ونسخة شيخو، كما خلت منها التراجم التي أخذت عن العربية كلها، ويرى نلدكه أن
كاتب هذه املقدمة هو علي بن محمد بن شاه الطاهري، من نسل الشاه ابن ميكال املتوفى
سنة ٣٠٢ه.
وهي مقدمة طويلة تضمنت بعض الأساطري التي خلفتها فتوح الإسكندر املقدوني
َ ريد ُ بها الإبانة عن السبب الذي من أجله و ِضع هذا الكتاب، والتعريف
ُ
في الشرق، وأ
بدبشليم امللك وبيدبا الفيلسوف اللذين يُذكران في فواتح الأبواب.
وإذا اكتفينا بهذه الكلمات عن هذه «املقدمة» بقي من القسم الأول ثلاثة أبواب:
باب «عرض الكتاب لابن املقفع»، وباب «بعثة برزويه إلى بلاد الهند لتحصيل الكتاب»،
وباب «برزويه الطبيب».
والترتيب الطبَعي أن تتوالى الأبواب على هذا النَّسق، وهي كذلك في نُسختنا، ولكن
النسخ الأخرى — عدا نسخة شيخو — تضع باب «عرض الكتاب لابن املقفع» بني باب
«بعثة برزويه» وباب «برزويه الطبيب»، ونسخة شيخو تضع باب «عرض الكتاب لابن
املقفع» بعد البابني، وهو فيها ناقص سقَ َط أكثره، وبعض النسخ العربية وترجمة نصر
الله الفارسية تضع فهرس الأبواب في آخر باب «بعثة برزويه» قبل باب «عرض الكتاب
لابن املقفع».
َّ ويتبني من هذا أن النسخ العربية تختلف في الترتيب بني باب «بعثة برزويه»
َّ وباب «عرض الكتاب»، ولكن هذه النسخ تتفق على نسبة عرض الكتاب إلى ابن املقفع،
وتخالفها النسخة الفارسية، فتفتتح الباب بهذه الجملة: «ابتداء كليلة ودمنة، وهو من
كلام بزرجمهر البختكان.»
َّوأما باب «بعثة برزويه» فتنسبه نسختنا ونسخة شيخو إلى بزرجمهر، وتغفل
بعض النسخ تسمية كاتبه، وتفتتحه النسخة الفارسية بقولها: «كذلك يقول أبو الحسن
عبد الله بن املقفع.»
فالنسخة الفارسية تجعل الباب الأول: باب «بعثة برزويه» من إنشاء ابن املقفع،
والبابني التاليني من إنشاء بزرجمهر، فترتيب الأبواب فيها مقبول إن صحت نسبة
37
ِ كليلة ودمنة
ُبعد أن يكون باب «عرض الكتاب» لغري ابن املقفع
الأبواب إلى من نسبتها إليهم، ولكني أ
للأسباب الآتية:
ُّسخ العربية التي في أيدينا على نسبته إلى ابن املقفع.
(١ (اتفاق الن
(٢ (وأنه ينتهي في نسختنا بهذا الكلام: «وإنَّ َّ ا مل ِ ا رأينا أهل فار َّ س قد فسروا هذا
الكتاب وأخرجوه من الهندية إلى الفارسية ألحقنا بابً ٍّ ا بالعربية ليكون له أسا ليستبني
فيه أمر هذا الكتاب ملن أراد قراءته وفهمه والاقتباس منه.»
ٌ وظاهر َّ أن الباب الذي يُ ِّبني مقاصد الكتاب ويدعو القارئ إلى قراءته وفهمه هو
بَْ ُني َ من هذا ما في نسخة اليازجي آخر هذا الباب: «قال عبد الله
َ
باب «عرض الكتاب»، وأ
َّ ابن املقفع: ملا رأيت أهل فارس قد فسروا هذا الكتاب من الهندية إلى الفارسية، وألحقوا
به بابًا وهو باب برزويه الطبيب، ولم يذكروا فيه ما ذكرنا في هذا الباب ملن أراد قراءته
واقتباس علومه وفوائده؛ وضعنا له هذا الباب فتأمل ذلك تُ َرشد إن شاء الله تعالى.»
سخة الفارسية نفسها تختم هذا الباب بقولها: «يقول ابن املقفع:
ُّ
(٣ (َّ والثالث أن الن
َّملا رأينا أهل فارس ترجموا هذا الكتاب من لغة الهند إلى اللغة البهلوية أردنا أن يكون
لأهل العراق والشام والحجاز نصيب منه، وأن يترجم إلى العربية وهي لغتهم.»
َ وإذا ر َّ جح أن ُ باب «عرض الكتاب» من إنشاء ابن املقفع، فكيف و ِضع بني باب
عد ً هذا دليلا َّ على أن باب
«بعثة برزويه» وباب «برزويه الطبيب» في بعض النسخ؟ أيُ ُّ
ِ «بعثة برزويه» ز َيد على الكتاب بعد أن ترجمه ابن املقفع كما زيدت «مقدمة بهنود بن
ُّ سحوان (أو علي بن الشاه الفارسي)»؟ أو يدل َّ على أن ابن املقفع وضع هذا الباب وجعله
ِّدمة، ثم وضع باب «عرض الكتاب» كما وضع الفرس باب «برزويه الطبيب»، وهذا
ُمقَ
يوافق النسخة الفارسية، وهي تنص على أنَّ ُ ه من كلام ابن امل ِّ قفع كما تقدم؟ أرجح أنه
َّ مزيد على الكتاب بعد ابن املقفع، وأما نسختنا فتنسب باب «بعثة برزويه» إلى بزرجمهر
كباب «برزويه الطبيب»، وتضعه بعد مقدمة ابن املقفع، وهو ترتيب لا إشكال فيه.
َّ والخلاصة أن الفرس زادوا على الكتاب باب «برزويه الطبيب»، وأن ابن املقفع زاد
بابً َّ ا آخر هو باب «عرض الكتاب»، وأن باب «بعثة برزويه» موضع نظر، أهو مقدمة
لباب «برزويه الطبيب» كتبه بزرجمهر، أم هو من إنشاء ابن املقفع، أم هو مزيد على
َر ِّجح أنَّه مما زيد في النسخ العربية؛ ملا ذكرت آنفً ا من
ُ
الكتاب بعد ابن املقفع؟ ولكني أ
َّ وضعه في بعض النسخ قبل باب «عرض الكتاب لابن املقفع»، ووضع الفهرس بعده، ولأن
38
املقدمة
الترجمتني السريانيتني خاليتان منه، والأولى مترجمة عن البهلوية والثانية عن العربية،
ً وهو ليس في منظومة ابن الهبارية أيض َّ ا، ومعنى هذا أن النسخ العربية القديمة لم تُجمع
ُّ على هذا الباب، فخلت منه الترجمة السريانية املأخوذة من العربية، وهذا يدل على أنَّه لم
ِرجمت
ً يكن في الفهلوية أيضا، ويؤيد هذا أنَّه ليس في النسخة السريانية القديمة التي تُ
عن الفهلوية.
القسم الثاني من أبواب الكتاب: الأبواب الخمسة التي
يتضمنها كتاب «بنج تنترا»
تتفق النسخ العربية وغريها على وضع هذه الأبواب الخمسة أول الكتاب بعد باب «برزويه
َّ الطبيب»، وعلى ترتيبها، وقد تضمنها كتاب مستقل في اللغة السنسكريتية، فهي أمهات
ً الكتاب وأثبت أبوابه في التاريخ، وهي أجملها قصص َ ا، وأكثرها مواعظ وعبرًا، وأطولها
ً حوار ُ ا؛ وقد سِّمي الكتاب كله «كليلة ودمنة» باسم ابني آوى اللذين هما محور القصص
في الباب الأول: باب «الأسد والثور» (تُنظر مقارنة القصص التي في هذه الأبواب بنظائرها
ُ في «بنج تنترا» في مقدمة الترجمة الإنجليزية لكتاب أنوار سَهيلي الفارسي الذي ترجمه
.(Edward B. Eastwick إيستوك إدوردِ
َّوأما باب «الفحص عن أمر دمنة» فلا يُعرف في الأدب الهندي، ولا يُلفى في النسخة
َّ السريانية القديمة، وينتهي باب «الأسد والثور» في «بنج تنترا» بأن الأسد لم يفكر في
ً شتربة من بعد، وأنه جعل دمنة وزيره وعاش سعيدا.
ُّ وليس في خاتمة باب «الأسد والثور» من نسختنا ونسخة شيخو ما يدل َّ على أن
وراءه بابًا للفحص عن أمر دمنة، والنسخ الأخرى العربية املطبوعة والنسخة الفارسية
َّ والسريانية الحديثة تختم الباب بأن َّ الأسد اطلع على كذب دمنة فقتله.
والظاهر أنَّه باب إسلامي وضعه ابن املقفع لئلا ينجو دمنة الخائن من العقاب
الجدير به، وفي الباب مسحة إسلامية ولا سيما في الكلام على البيِّنة، وقد جاءت فيه كلمة
«الإسلام» في نسختنا، ولعلها سهو من الكاتب (انظر تعليقاتنا).39
39 انظر: باب الفحص عن أمر دمنة، هامش رقم ٧) الناشر).
39
ِ كليلة ودمنة
َّوأم َّ ا باب «السائح والصواغ» فقد جاء في الباب الأول من «بنج تنترا»، وهو باب
ُ «الأسد والثور»، وقد عِث َ ر عليه في مجموعة من الأساطري البوذية اسمها: «سواهني» وكتاب
ُ ه و ِضع بادئ بدء في الآداب الهندية.
َ آخر بوذي اسمه: «كرماجتكا»، فلا ريب أنَّ
القسم الثالث من أبواب الكتاب: أبواب «الجرذ والسنور» و«امللك والطائر»
و«الأسد وابن آوى»
َسَّمى: «مهابهارتا»، وقصة
هذه القصص الثلاث تُلفى في الحماسة الهندية الكبرى التي تُ
ِ لفى كذلك في كتاب آخر اسمه: «هرَونجه».
«امللك والطائر» تُ
ُّسخ كلها كما تتوالى الأبواب الخمسة التي يتضمنها كتاب «بنج
وهي تتوالى في الن
ٍ تنترا»، وتليها في بعض النسخ، ويتخلل بني هاتني املجموعتني في نسخ أخرى بعض
الأبواب، يفصل بينهما في نسختنا باب «إبلاد وإيراخت وشادرم» وباب «ملك الجرذان»،
وفي نسخة شيخو باب «إبلاد وشادرم وإيراخت» وحده.
َّ وهذه الأبواب الثلاثة والأبواب الخمسة الأولى داخلة في العشرة التي عدها نصر الله
بن عبد الحميد أبوابًا هندية، وبقية العشرة باب «الفحص عن أمر دمنة» وباب «الأسوار
واللبؤة».
ُ والي بني هذه الأبواب الثمانية أقرب إلى ما عِرف
َّ ويظهر مما تقدم أن النسخ التي تُ
َّ من تاريخ الكتاب حتى اليوم، وأن الفصل بني الأبواب الخمسة والأبواب الثلاثة طارئٌ
على الكتاب، ثم أحد البابني الفاصلني في نسختنا، وهو باب «ملك الجرذان» ليس من
ٌ كلام ابن املقفع بلا ريب، وفي هذا دليل َّ آخر على أن الفصل بني الأبواب الخمسة والأبواب
ٌ الثلاثة حادث في الكتاب.
القسم الرابع من أبواب الكتاب
َّوأم ُ ا القسم الرابع فهو كما قدمت َ قسمان: أربعة أبواب تتفق عليها النسخ، وثلاثة تختلف
في إثباتها.
40
املقدمة
َ (أ) الأبواب التي تتفق عليها النسخ
ْس َخِتنَا باب «إبلاد وإيراخت وشادرم
(١ (والباب الأول من الأربعة املتفق عليها هو في نُ
ملك الهند»، وهو كما يرى القارئ باب هندي بوذي، يَُمثِّل العداوة بني البراهمة والبوذية
ِقل إليها من
ُ ويشنع على البراهمة، وقد عِثر على القصة في اللغة التبتية، والظاهر أنه نُ
ُ سختنا ونسخة شيخو بني الأبواب التي عِرف أصلها الهندي يؤيِّد
ْ الهندية، ووضُعه في نُ
َّ هذا، ويرى القارئ أن الباب قسمان مختلفان: الأول قصة الأحلام وتأويلها، والثاني
ُ املحاورة بني امللك ووزيره، والقسم الثاني مختصر في نسخة دي ساسي والنسخ املصرية،
ُومطنَب في نسختنا ونسخة شيخو والنسخة السريانية الحديثة.
(٢ (َّوأم ٌ ا باب «اللبؤة والأسوار» فظاهر فيه النزعة الهندية: تحريم اللحم والاقتيات
ُ بالفاكهة، ثم التحرج من أكل الفاكهة والاجتزاء بالعشب حينما شكت الوحوش قلة
الفاكهة.
(٣ (والباب الثالث: باب «الناسك والضيف» لا يوجد في السريانية القديمة املترجمة
ُّ من الفهلوية، وليس فيه ما يدل على أصل هندي، بل فيه من ذكر التمر واللغة العبرية ما
ِسقط في الترجمة السريانية
ُ
َّ يبعده عن الهند، فإم ً ا أن يكون مزيدا في اللغة الفهلوية وقد أ
ِلحق بعده،
ُ
َّ القديمة، وإما أن يكون من زيادات النُّسخة العربية ألحقه ابن املقفع أو أ
ولست أرى في أسلوبه ما يبعده من كلام ابن املقفع، واتفاق النسخ العربية عليه يرجح
هذا.
(٤ (َّوأم ً ا باب «ابن امللك وأصحابه» فقد رأى بعض الباحثني شبها بينه وبني قصة
َّ جاءت في الباب الأول من «بنج تنترا»، ويرى الأستاذ فلكنر أن ُ هذه املشابهة ضعيفة لا
تبرر الحكم بأنهما من أصل واحد، وينقل عن بنفي Benfey َّ رأيه في أن الباب بوذي
ً الأصل، وأرى أسلوبه ليس بعيدا عن أسلوب ابن املقفع، فالظاهر أنه مما ترجمه كذلك.
(ب) الأبواب التي تُوجد في بعض النسخ دون بعض
(١ (َّفأما باب «ملك الجرذان» فهو لا يُ َوجُد َّإلا َ في نسختنا وحدها، ولا ريب َّ أن لُغته
وأسلوبه بَعيدان من لغة ابن املقفع وأسلوبه كل البُ ُ عد، بل أرى فيه من الركاكة ومقاربة
ِلحق ببعض نسخ الكتاب بعد ابن املقفع بقرون، وهذا الباب يوجد
ُ
العامية ما يُ ِّرجح أنه أ
41
ِ كليلة ودمنة
ِلحق
ُ
ِرجم منها أو من كتاب آخر وأ
في السريانية القديمة وهو آخر أبوابها، ويظهر أنَّه تُ
ِقلت عن
بهذا الكتاب؛ ولذا تخلو منه نسخ عربية كثرية، وتخلو منه أكثر التراجم التي نُ
العربية.
َّ ويرى الأستاذ نلدكه أن َّ هذا الباب فارسي لا هندي، وقد لخص فلكنر أدلة نلدكه
َّ ومنها: أن الأسماء في هذا الباب ليست هندية وكثريٌ منها فارسي، وأنه ورد أثناء الباب
َّ عبارة «في أرض البراهمة»، وهي عبارة لا تقال في كتاب هندي، وأن في الباب جملة تذم
ٌ الانتحار وهذا قريب من مذهب الفرس لا الهند (انظر مقدمة فلكنر صXXXVI.(
(٢ (َّوأما باب «مالك الحزين والبطة» فقد عثر عليه دي ساسي في بعض النسخ،
ِ ه باب ز َيد على الكتاب من بعد، ويُخبرنا فلكنر أنه ورد في بعض
وقد كتب ناسخه أنَّ
سخ العربية املطبوعة كلها، ويُوجد في بعض التراجم
املخطوطات العربية، ولم أجده في النُّ
املأخوذة عن العربية كالترجمة الإسبانية والعبرية.
(٣ (َّوأما باب «الحمامة والثعلب ومالك الحزين» فقد ورد في النسخ املصرية والشامية
َّ املطبوعة إلا في نسخة شيخو، وليس في نسختنا ولا في طبعة دي ساسي، وهو في بعض
التراجم املأخوذة عن العربية كالإسبانية والعبرية كالباب الذي قبله.
وهذه الأبواب الثلاثة ليست في ظنِّي من كلام ابن املقفع.
هذه خلاصة ما هدى إليه البحث في كتاب «كليلة ودمنة» وتاريخه، وعسى أن تكون هذه
املقدمة وهذه الطبعة خطوتني سديدتني لم يظفر بمثلهما تاريخ الكتاب في اللغة العربية
من قبل، وعسى أن يجدا من عناية الأدباء والباحثني ما يكافئ قيمتهما، ويُجازي ما بُِذل
ِ من اجتهاد ودأب، وما احتمل من نفقة وعناء لإخراج الكتاب في صورة تفخر بها الطباعة
في الأقطار العربية كلها. والله ولي التوفيق

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعني
ِفي عِّزه، العادل في قضائه،
ِ
ِ الحمد هلل اللطيف الخبري، العليم القدير، القاهر ُفي ملكه، الدائم
ِ املنفرد ِ في ملكوته، خالق ِ الخلق، وباسط الرزق، ليس كمثله شيء وهو السميع البصري،
نعم املولى ونعم النصري؛ خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسكن فيه حكمته،
ٌ ه، فمنهم سعيد ٌ بإرادته، وشقي بقدرته.
َّريتُ
وتوارث ذلك ذُ
ُ وأشهد ْ أن َّ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادةً أرجو بها الخلاص، وأفوز بها
َّ يوم الإخلاص، وأشهد أن ُم ًحمدا عبده ورسوله، خلقه للهدى، وقد فاز من به اهتدى،
1
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
1 هذا التحميد مختص بهذه النسخة، والظاهر أنه من إنشاءِ بعض ناسخيها أو مالكيها لا من كلام ابن
املقفع (انظر تفصيل هذا في املقدمة).

باب عرض الكتاب لعبد االله بن المقفع1
هذا كتاب كليلة ودمنة، وهو مما وضعته علماء الهند من الأمثال والأحاديث، التي التمسوا
َ بها أبلغ ما يجدون من القول، في النحو الذي أرادوا، ولم يزل العقلاء من أهل كل زمان
ِ ل عنهم، ويحتالون لذلك بصنوف الحيَل، ويطلبون إخراج ما عندهم
يلتمسون أن يُعقَ
ِ من الع َّ لل، فدعاهم ذلك إلى أن وضعوا هذا الكتاب، ولخ ُ صوا فيه من بليغ الكلام ومتقَنه
ا
َّ على أفواه الطري والبهائم والسباع؛ فاجتمع لهم من ذلك أمران: أم ُ ا ه َ م فوج ُ دوا م َّ تصرفً
ُ ، فاجتباه الحكماء لحكمته،
ِ في القول، وشعابً َّ ا يأخذون فيها، وأم ً ا هو فجمع لهوا وحكمةً
ْهِو َّ ه، وأم ُ ا امل ِ تعلمون من الأحداث وغريهم فنش َّ طوا لعلمه، وخف ِ عليهم حفْ ُظه.
ِ والسخفاء للَ
ُ فإذا احتنك الحدث ُ واجتمع له أمره، وثاب إليه عقله، وتدبَّ َ ر ما كان حِفظ منه وما
َ وعاه في نفسه، وهو لا يدري ما هو، ع َر ٍ ف أنه قد ظفر من ذلك بكنوز عظام؛ فكان
ِدر ُ ك فيجد أباه قد كنز له من الذهب والفضة، واعتقد له ما استغنى به عن
كالرجل يُ
ُ هذا أول مقدمة ابن املقفع التي جِع ٍ ل عنوانها في كثري من النسخ «باب عرض الكتاب لعبد الله بن
1
املقفع»، وليس لها في أصل نسختنا عنوان.
والنسخ تختلف في مكان هذه املقدمة، فهي في نسخة دي ساسي Sacy De والطبعات املصرية وطبعتي
اليازجي وطبارة، بني باب بعثة برزويه وباب برزويه، وفي نسخة شيخو قبل باب الأسد والثور، وهي
ٍّجد ٌ ا، وظاهر َّ أن ترتيب نسختنا أقرب إلى الصواب؛ لأن ٌّ ابن املقفع حري أن يضع مقدمته
فيها قصريةٌ
َّصد ُ ر بها بعض النسخ فقد و ِضَعت بعد
َّ قبل أبواب الكتاب كله، وأما «مقدمة بهنود بن سحوان» التي تُ
ابن املقفع، فلهذا تخلو منها نسخ قديمة كنسختنا هذه؛ ثم النسخ الأخرى تتقارب فيما بينها وتخالف
ٍ نسختنا في كثري من نصوص هذه املقدمة.
ِ كليلة ودمنة
استقبال السعي والطلب، ولم يكن — إذ كثرت صنوف أصول العلم ثم تفرعت فروعها
— بد من أن تكثُر العلل التي تجري عليها أقاويل العلماء.
ٌّ
فأول ما ينبغي ملن طلب هذا الكتاب أن يبتدئ فيه بجودة قراءته والتثبت فيه، ولا
تكون غايتُ َ ه منه بلوغ آخره قبل الإحكام له، فليس ينتفع بقراءته ولا يُفيد منه شيئًا؛
َ وإن طم ْحت َ عيناه إلى جمعه، ولم يأخذ منه ما يعي الأول َ فالأول ٌ ، فإنه خليق َّألا يُ َصيب
َّ منه إلا َّ كما أصاب الر ً جل الذي بلغني أنه رأى في بعض الصحارى كنز َّ ا، فلما كشف عنه
ً ا عظيم ُ ا لا عهد له بمثله، فقال في نفسه: إن أنا أحرزت ما ههنا بنقله
ونظر إليه رأى شيئً
َّ وحدي لم أنقله إلا ً في أيام، وجعلت لنفسي عملا ً طويلا ً ، ولكن أستأجر رجالا يحملونه،
َ ففعل ذلك وجاء بالرجال فحَمَل ُّكل ٌ واحد منهم ما أطاق، وانطلقوا، فيما زعم، إلى منزله،
َ فلم يزل دائبً َ ا في ذلك حتى فر َغ واستنفد الكنز كله، ثم انطلق إلى منزله بعد الفراغ
فلم يجد شيئً َّ ا، ووجد كل رجل منهم قد حاز ما حمل لنفسه، ولم يكن له إلا العناء في
استخراجه والتعب عليه.
فليس ينبغي أن يجاوز شيئًا إلى غريه حتى يُ ِحكمه ويتثبت فيه وفي قراءته وإحكامه،
َ فعليه بالفهم ملا يقرأ واملعرفة؛ حتى يضع َّكل ِ شيءٍ موضعه وينسبه إلى معناه، ولا يعر ْض
ِعرف
َّ ه إذا أحكم القراءة له وعرف ظاهر القول؛ فقد فرغ مما ينبغي له أن يَ
في نفسه أنَّ
ِت ٍ ي بجوز ِصحاح في قشوره لم ينتفع به حتى يكسره ويستخرج
ُ
َّ منه، كما أن ُرجًلا لو أ
ِ ا وأن يلتمس علم ذلك، ولا يكن كالرجل الذي بلغني
ْ ما فيه، فعليه أن يَعلم أن له خبيئً
أنه طلب علم الفصاحة فأتى صديقً ا له ومعه صحيفةٌ صفراء، فسأله أن يكتب له فيها
علم العربية، فكتب له في الصحيفة ما أراد، فانطلق الرجل إلى منزله وجعل يقرؤها
َّ ولا يدري ما معناها، وظن أنه قد أحكم ما في الصحيفة، وأنه تكلَّم في بعض املجالس
وفيه جماعةٌ ُ من أهل الأدب والفصاحة، فقال له بعضهم: لحنت، فقال: ألحن والصحيفة
ه
ِهَم َ ه وعرفَ
ٌ الصفراء في منزلي؟ فاملرء حقيق أن يطلب العلم2 فإذا وجد حاجته منه وفَ
وبلغ غايته منه، انتفع بما يرى فيه من الأدب، فإنه يُقال في أمرين لا ينبغي لأحد أن
ِّ يقصر فيهما بل يُ ِكثُر ُ منهما: ح ُسن العمل والتزود للآخرة.
ويُ ً قال أيضا في أمرين يحتاج إليهما كل من احتاج إلى الحياة: املال والأدب.
2 النسخ الأخرى تضع هنا «قراءة هذا الكتاب» بدل «طلب العلم» في نسختنا.
46
باب عرض الكتاب لعبد الله بن املقفع
ويُ ٍ قال في أمرين لا ينبغي لأحد أن يستكبر عنهما: الأدب واملوت، ويُ َّ قال: إن الأدب
َ يجلو العقل كما يجلو الوَد ُك َ النار ُ ويزيد ُ ها ضوءًا، والأدب يرفع صاحبَه كما تُرفع الكرةُ
يضربها الرجل الشديد، والعلم يُ َ نجي من استعمله، ومن عِلم ولم يستعمل علمه لم ينتفع
َّ ل الرجل الذي بلغني أن سارقًا دخل عليه في منزله فاستيقظ الرجل،
َ بعلمه، وكان كمثَ
َ ه حتى إذا فر ُ غ مما يأخذ قمت
ُ فقال في نفسه: لأسكتَ َّن ُ حتى أنظر غاية ما يصنع، ولأترَكنَّ
َّ إليه فنغ َّ صت ذلك عليه وكدرته، فسكت وهو في فراشه، وجعل السارق يطوف في البيت
عاس، وحمله النوم3 فنام ووافق
ُّ
ويجمع ما قدر عليه حتى غلب على صاحب البيت الن
ذلك فراغ السارق، فعمد إلى جميع ما كان قد جمعه فاحتمله وانطلق به، واستيقظ
ا، فجعل يلوم نفسه ويعاتبها ويعض
َ الرجل بعد ذهاب السارق فلم ير في منزله شيئً ُّ
َّ ا، وعرف أن ِ فطنته وعلمه لم ينفعاه شيئًا إذ لم يستعملهما.
كفَّيه أسفً
والعلم لا يَتِ َّ م لامرئ إلا بالعمل، والعلم هو الشجرة، والعمل هو الثمرة، وإنما يطلب
ْ الرجل العلم لينتفع به، فإن ُ لم ينتفع به فلا ينبغي أن يطلبه، ور َّب ٍ رجل َّ لو قيل له: إن
َّ ى لتعجب من جهله
َ ا بطريق م ُخ ِ وف ثم رك ٌ به فأصابه فيه مكروه أو أذً
ً رجلا كان عارفً
ُ ه أن يكون يركب من الأمور ما يعرف به القبح والذم وشر العاقبة، وهو
َ وفعله، ولعلَّ
بذلك أشد استيقانًا من ذلك الرجل الذي ركب الهول بجهله، وحمله على ذلك هواه، ومن
ِ لم ينتفع بمعرفته كان كاملريض العالم الذي يعلم ثقيل الطعام من خفيفه، ثم تحملُه
الشهوة على أكل الثقيل منه.
ُّ فأقل ُ الناس ع ًذر ُ ا في ترك الأعمال الحسنة من قد عرف فضلها وح َسن عائدتها،
ِ وما فيها من املنفعة، وليس يعذ ٌ ره أحد على الخطأ، كما أنَّ َّ ه لو أن ُ رجلني أحدهما أعمى
ب ً فهلكا جميع ُ ا ولم ينج البصري من الهلكة — لأنه صار والأعمى
ُ والآخر بصري وقعا في ج ٍّ
في الجب بمنزلة واحدة — لكان البَصريُ َّ عند العقلاء أقل ً عذرا من الأعمى.
ِّ مه غريه وليعرفه سواه، فإنما هو بمنزلة العني التي
ومن كان يطلب العلم ليعلِّ
َّ ينتفع الإنسان بمائها، وليس لها من تلك املنفعة شيء؛ فإن ً خلالا ثلاثًا ينبغي لصاحب
الدنيا أن يقتبسها ويُقبسها: منها العلم، ومنها املال، ومنها اتخاذ املعروف؛ وقد قيل: إنه
3 هذه الجملة «وحمله النوم» ليست في النسخ الأخرى، وهي ترجمة حرفية لعبارة فارسية «خواب أورا
برد»، فهي من الأدلة على أن هذه النسخة أقرب إلى ترجمة ابن املقفع (انظر املقدمة).
47
ِ كليلة ودمنة
َب
د ً جاهلا َ من طلَ
ٍ لا ينبغي لطالب ً أن يطلب أمر َّ ا إلا من بعد معرفته بفضله، فإنه يَُعُّ
ً أمرا وعنَّى نفسه فيه وليس له منفعة.
وقد نرى بعض من يقرأ هذا الكتاب فيتعجب منه ويجهد نفسه في حفظه ويترك
ً العمل به (ولا ينبغي للعالم أن يعيب أحد َّ ا بما هو فيه)، فيكون كالأعمى الذي عري
4 وينبغي ملن عقَ َّ ل ألا ً يطلب أمر ُ ا فيه مضرة لصاحبه، يطلب بذلك صلاح
الأعور بعوره.
َّ نفسه، فإن الغادر مأخوذ، ومن فعل ذلك كان خليقً ا أن يُصيبه ما أصاب الرجل الذي
بلغني أنه كان يبيع السمسم، وكان له شريك، فكان سمسمهما في بيت واحد، غريَ َّ أن
َّ الذي لكل واحد منهما على حدة، فأحب أحدهما أن يذهب بالذي لشريكه من السمسم،
َّ ثم أحب أن يجعل له علامة حتى إذا دنا الليل عرفه بها، فعمد إلى ردائه فغطاه به،
ٍ ثم انطلق إلى صديق َّ له فأخبره بالذي هم به، وسأله أن يعينه عليه، فأبى صديقه ذلك
َّإلا َّ أن يجعل له نصف ما يأخذ منه ففعل، ثم إن شريكه دخل البيت فرأى سمسمه
غط َّ ى برداء صاحبه، فظن َّ أنه غط َ اه من التراب والدواب، فقال في نفسه: لقد أحسن
ُم ٍّ
َّ فحول
5
َّ غطى بردائه،
ُّ ه أحق أن يُ
ُ شريكي في تغطيته سمسمي وإشفاقه عليه، وسمسم
َّ الرداء على سمسم صاحبه، فلم ُ ا كان في الليل جاء التاجر والرجل معه ودخلا البيت وهو
ويجس َّ حتى وقعت يده على الرداء املغطى على السمسم،
ُم ِظل ُ م، فجعل الرجل ُ يلتمس ُّ
وهو يُ ِّقد َّ ر أنه كما غطاه، وأنه سمسم صاحبه، فأخذ نصفه وأعطى صديقه الذي عاونه
َّ نصفه، فلم َّ ا أصبح جاء هو وشريكه حتى دخلا البيت، فلم َّ ا رأى الرجل أن الذي ذهب
ُ سمسم َّ ه، ورأى سمسم صاحبه على حاله دعا بالويل، وعرف أن الذي أخذه ذلك الرجل
6
ِّ ليس براده، ويخشى أن تكون فيه فضيحته، فلم يقُ ل شيئًا.
ً بشيءٍ فيه مثله، ويكون
4 َ في النسخ املصرية ونسختَي اليازجي وطبارة: «وليس للعالم أن يعيب امرأ
ً كالأعمى الذي يعري الأعمى بعماه»، وفي نسخة حماه التي نقل عنها شيخو: «فإن خلالا ينبغي لصاحب
َّ الدنيا أن يقتبسها: منها ألا َ يعيب ً أحدا بشيءٍ هو فيه، فيكون كالأعمى …»
5 َّ في النسخ الأخرى: أن التاجر ظن صديقه قد نسي الرداء فاستحسن أن يضع رداء صديقه على سمسمه
ليجده صاحبه حيث يحب.
ِ في النسخ الأخرى: أن التاجر الآخر جاء فلم يجد ع َّ دل صاحبه، فاغتم َ وعزم َ على أن يغرمه من ماله، ثم
6
َل اللص
َّ جاء الشريك الخائن فسأل صاحبه عن حزنه، فلم َ ا أخبره اعترف بما فعل، فضرب له صاحبه مثَ
48
باب عرض الكتاب لعبد الله بن املقفع
ً وينبغي ملن طلب أمرا أن تكون له غايةٌ ينتهي إليها، فإنه من أجرى إلى غري غاية
ٌ أوشك أن يكون فيه عناؤه، وتقوم فيه دابته، وهو حقيق َّألا يُعنِّي نفسه بطلب ما لا
ًر َ ا على دنياه، فإنه قد قيل: م َّ ن قل تعلقُه بالدنيا قلَّت حسرتُه
يجد، وأن يكون لآخرته مؤثِ
َّ عند فراقها، وينبغي له ألا ييئس من أن يُصيب ذلك وإن قسا قلبُه، فإنه يُقال في أمرين
ِّ سك واملال، وإنما مثل ذلك كالنار املتأججة التي لست تقذف
يجملان بكل أحد، وهما النُّ
َّ ا إلا قبلته وكان لها موافقً ا.
إليها حطبً
ٍ الشيءَ وهو غري راج له، كما أصاب الرجل الذي بلغني أنه
ُ وربما أصاب الرجل
ُوعري، فغدا يطلب من معارفه وشكا إليهم،
كانت به حاجةٌ شديدةٌ َوخلَّةٌ ظاهرةٌ، وفاقةٌ
ِ ا، ورجع إلى منزله وهو آيس؛ فبينما هو نائم
وسألهم ثوبً َ ا يلبسه، وجِهد فلم يُ ِصب شيئً
َّ على فراشه إذا بسارق قد دخل عليه في منزله، فلما رآه الرجل قال: ما في منزلي شيء
ِجه َّ د نفسه، وإن السارق دار في
يستطيع هذا السارق أن يسرقه، فليصنع ما يشاء، وليُ
البيت وطلب فلم يجد شيئًا يأخذه، فغاظه ذلك، وقال في نفسه: ما أرى ههنا شيئًا، وما
دا من
ِّر، فقال: ما أجد بٍُّ
ً أحب أن يذهب عنائي باطلا، فانطلق إلى خابية فيها شيءٌ من بُ
ُ أخذ هذا البرِّ ُ إذ لم أجد غريه، فبسط ملحفة كانت عليه، وصب ذلك البرَّ َّ فيها، فلم ُ ا بصر
ُ به الرجل قد جعل البرَّ في امللحفة، وهو يريد أن ينطلق بها قال: ليس على هذا صبر،
ُ يذهب البرَّ ويجتمع عليَّ ُ أمران: الجوع والع ٍ ري، ولن يجتمعا على أحد إلا أهلكاه، فصاح
ُ بالسارق فهرب من البيت وترك امللحفة، فأخذها صاحب املنزل فلبسها وأعاد البرَّ إلى
مكانه، فليس ينبغي لأحد أن ييأس، ولا يطلب ما لا يُ ُ نال، ولكن لا يدع ج ًهدا في الطلب
َّ على معرفة، فإن الفضل والرزق يأتيان من لا يطلبهما، ولكن إذا نَ َظر في ذلك وجد من
َّ طلب وأصاب أكثر ممن أصاب بغري طلب، ولم يكن حقيقً ا أن يقتدي بذلك الواحد الذي
ٌّ أصاب من غري طلب، ولكن يقتدي بالكثري الذين طلبوا فأصابوا. وحق على املرء أن يُكثر
املقايَ َ سة، وينتفع بالتجارب، فإذا أصابه الشيء فيه م َضرَّ َ ة عليه حِذَره وأشباهه، وقاس
َ بعضه ببعض حتى يحذر الشيء بما لقي من غريه؛ فإنَّ َّ ه إن لم يحذر إلا َ الذي لقي بعينه
لم يُ ُ حكم التجارب في جميع عُم َّ ره، ولم يزل يأتيه شيءٌ لم يكن أتاه بعينه؛ فأما الذي
بُ ٍّرا، وذلك تمثيل غري مستقيم، والظاهر أن
ُخرى مملوءةٌ
الذي أراد أن يسرق خابيةً مملوءةً ذهبًا، فأخذ أ
ما يزيد على ما في نسختنا من تصرف بعض القراء.

ينبغي ألا يدعه على حال؛ فأن يحذر ما قد أصابه، وينبغي له مع ذلك أن يحذر ما
لُه كمثل الحمامة
َ ه، ولا يكون مثَ
ِ م من أن يأتيه مثلُ
يُصيب غريه من الضرر؛ حتى يَ ْسلَ
َؤخذ فرخاها فيُذبحان، وترى ذلك في وكرها ولا يمنعها من الإقامة في مكانها حتى
التي يُ
تؤخذ هي فتُذبح.
ِّصر َ عنه؛ فإنه من
ٌّ وينبغي له مع ذلك أن يكون للأمور عنده حد ُ لا يجوزه ولا يُقَ
َّ جاز الحد كان كمن قصر َّ عنه؛ لأنهما خالفا الحد ً جميعا، وينبغي له أن يَ َّ علم أن كل
ويُقال في ثلاثة أشياء
7
ٍ إنسان ساع، فمن كان سعيه لآخرته ودنياه فحياته له وعليه.
يحق ُ على صاحب الدنيا إصلاح ُ ها وأن يتدارك لنفسه فيها: أمر ُ دنياه، وأمر معيشته،
ُّ
ِ ى: من كانت فيه لم يستق ْم أمره له؛ منها:
ُ وأمر ما بينه وبني الناس، وقد قيل في أمور شتَّ
َر ُ ص، ومنها: التصديق لكل م ِخبر ُ . ور َّب ٍ رجل يُخبر
التواني في العمل، ومنها: التضييع للفُ
ِّ ه، ولا يعرف استقامته فيصدق به ملا يَرى من تصديق غريه، فيتمادى
بالشيء لا يقبلُ
َ به ذلك حتى يكون َ كأنه ع َرفه، ورجل يصدق به لهواه في الأمر الذي يُ َخبر ُ به. فالعاقل
ِهًم َّ ا، وينبغي له ألا َ يقبل َ من أحد وإن كان صدوقً َّ ا إلا ِصدقًا، وينبغي
لا يزال للهوى متَّ
َّ له ألا َّ يتمادى في الخطأ ولا يتوانى في النظر، وينبغي له إذا التبس عليه أمر ألا َ يلج في
شيء منه، ولا يُ َ قدم َ عليه قبل أن يستيقن بالصواب منه، فيكون َّ كالرجل الذي يجور
ا إلا ازداد
ٍّ
َ ن الطريق فيسري على جوره وعلى الاعوجاج، ولا يزداد في السري حث
َ عن سنَ
من الطريق بُ ًعدا، أو كالرجل الذي يدخل في عينه القذى فلا يزال يدلكها حتى يعلوها
ِتي إلى
ُ
َّ البياض فتذهب. وعلى العاقل ألا َّ يأخذ إلا َّ بالحزم، ويعلم أن الجزاء كائن، ومن أ
8
ِت َي َّ إليه فشق َ عليه فقد ظلم.
ُ
صاحبه بمثل ما أ
7 تفصيل هذا في نسخة اليازجي: «ومن كان سعيه لدنياه خاصة فحياته عليه، ومن كان سعيه لآخرته
فحياته له.»
8 هنا تذكر النسخ الأخرى قصة «تاجر السمسم وشريكه» التي تقدمت في [انظر: باب عرض الكتاب
لعبد هلل بن املقفع (الناشر)] وما بعدها.
50
باب عرض الكتاب لعبد الله بن املقفع
ِ فمن قرأ هذا الكتاب فليقتد ً بما في هذا الباب؛ فإنني أرجو أن يزيده بصرا ومعرفة،
فإذا عرفه اكتفى واستغنى عن غريه، وإن لم يعرفه لم ينتفع به، فيكون مثلُه كمثَل
ُ الذي رمى بحجر في ظ ِ لمة الليل، فلا يَدري أين وقع الحجر ولا ماذا صنع؟9
َّ ا ملا رأينا أهل فارس قد فسروا هذا الكتاب10 وأخرجوه من الهندية إلى الفارسية؛
وإنَّ
ٍّسا ليستبني فيه أمر هذا الكتاب ملن أراد قراءته وفهمه
ُ
ألحقنا بابًا بالعربية؛ ليكون له أ
والاقتباس منه.
فأول ما نبتدي بذكر بعث برزويه إلى بلاد الهند.
َل ثلاثة إخوة؛ أسرف اثنان منهم فأتلفا مالهما، وأحسن الآخر القيام على
َ هنا تذكر النسخ الأخرى مثَ
9
َّ ها لؤلؤة، فترك شبكته وفيها سمكة كبرية، فلما
َ ماله فنفع أخويه، ثم مثَل الصياد الذي رأى صدفة فظنَّ
َّ وجد الصَد َ فة فارغة ندم على تضييع ما في يده، ثم وجد صَد ً فة أخرى فيها لؤلؤة فأعرض عنها حرصا
َّ على سمكة صغرية في شبكته، ومر ٌصياد َّ آخر بالصَدفة فأصاب فيها لؤلؤة عظيمة.
10 هذه الخاتمة تُذكر في نسخة اليازجي في صيغة تخالف ما هنا بعض املخالفة، ولا تذكر النسخ
الأخرى، وهي ذات قيمة في تبيني الباب الذي زاده ابن املقفع (انظر املقدمة).
51

باب توجيه كسرى أنو شروان برزويه إلى
بلاد الهند لطلب الكتاب
َّ أم َّ ا بعد؛ فإن َّ الله — تبارك وتعالى — خلق خلقه برحمته، ومن على عباده
1
قال بُ ُز ِرجِمهر:
ِدركون به
ِ بفضله، ورزقهم ما يقدرون به على إصلاح شأنهم ومعايشهم في الدنيا، وما يُ
ُ استنقاذ أرواحهم من أليم العذاب، وأفضل َّ ما رزقهم الله ومن ُ عليهم به العقل الذي هو
َّو ٌ ة لجميع الأشياء، فما يقدر أحد ِ من الخلق على إصلاح معيشة، ولا اجترار منفعة، ولا
قُ
َّ ة إلا ُ به، وكذلك طالب ُ الآخرة املجتهد على استنقاذ روحه من الهلكة.
َ دفع م َضرَّ
ُ فالعقل ٌسبب َ لكل خري، وهو مكتس ٌب بالتجارب والآداب، وغريزةٌ مكنونةٌ في الإنسان
كامنةٌ َك ُك ُم ِون ُ النار في الحجر والعود، لا تُرى حتى يقدحها قادح من غريها، يُظهر
ِّقويه التجارب،
ِظهره الأدب وتُ
ضوءها وحريقها، كذلك العقل من الإنسان لا يَظهر حتى يُ
فإذا استحكم كان هو وليَّ ِّ التجارب واملقو َي لكل أدب، واملميِّز لجميع الأشياء، والدافع
ٍّ لكل ضر َّ ، فلا شيءَ أفضل من العقل والأدب؛ فمن من عليه خالقه بالعقل، وأعان هو على
ده، وأدرك أمله في الدنيا والآخرة.
ُّ
َ نفسه باملثابرة على الأدب والحرص عليه؛ سِعَد َج
َّ لا يصد َّ ر هذا الباب بقول بزرجمهر إلا في نسختنا ونسخة شيخو، وفي الترجمة الفارسية لنصر الله بن
1
عبد الحميد، أول هذا الباب: «يقول أبو الحسن عبد الله بن املقفع.» وهذه املقدمة تأتي أثناء الباب على
لسان برزويه في نسختي اليازجي وطبارة.
ِ كليلة ودمنة
ِّ والعقل هو املقو َ ي امللك السعيد الجِّد ُ ، الجليل املرتبة، ولا تصلح ُّ الس َّ وقة إلا عليه
2
وعلى تدبريه.
ٍ ، ولكل علة ً مجرى، وكان من علة
ٍ ا، ولكل سبب علةً
3 جعل الله لكل شيءٍ سببً
وقد
ُ انتساخ هذا الكتاب ونقله من بلاد الهند إلى مملكة فارس إلهام َ الله تعالى أنو شروان
ِ ا، وأكثرهم
ِ ه كان من أفضل ملوك فارس ع ًلم ُ ا وح ًكما ورأيً
َ كسرى بن قُباذ في ذلك؛ لأنَّ
ِ ا عن مكامن العلم والأدب، وأحرصهم على طلب الخري، وأسرعهم إلى اقتناء ما يَزينُه
بحثً
ِ ِ ، والصديق ِّ من العدو، ولم
ِّ بزينة الحكمة، وفي معرفة الخري من الشر ِّ ، والضر من النفع
ُ عرف َّ ذلك إلا ِ بعون ُالله خلفاءه وساسة عباده وبلاده لإقامة رعيَّته وأموره، فكان
ُيكن يَ
َّ مما خص اللهُ ِ به كسرى أنو شر َ وان أن أكرمه بهذه الكرامة، ورزقه هذه النعمة؛ حتى
استوثقت له الرعية، وأذعنت له بالطاعة، وصفَت له الدنيا، وانقادت امللوك له، فركنت
َقسَم ُ ها له في دولته وع ُ باب ملكه.
إلى طاعته، وتلك نعمة من الله سابغةٌ
ِ فبينما هو في عِّز ملكه وبَ ُ هاءِ سلطانه إذ بَلَ َّ غه أن بالهند كتابًا من تأليف العلماء،
ُ وترصيف الح ُ كماء، وتدبري الفهماء، قد ميِّزت أبوابُ ِ ه، وأثبتت عجائبه على أفواه الطري
ِّ والبهائم والوحش والسباع والهوام، وسائر حشرات الأرض، مما يحتاج إليه امللوك في
َو ِ دها وإنصافها، فلا ق َوام َّ للرعية إلا ُبح ِسن سياسة امللوك،
َ
سياسة رعيتها، وإقامة أ
وسعة أخلاقها، ورأفتها ورحمتها؛ ولذلك لم يََد ِع ك َسرى أنو شروان اقتناء ذلك الكتاب
َّ الذي بلغه عنه أنه ببلاد الهند، وضمه إلى نفسه، والاستعانة به على سياسته، والعمل
بحسن تدبريه.
َّفلم َ ا ع َز ْ م على ما أراد من أم َّ ره، وهم ِ بالبعثة في طلب كتاب كليلة ودمنة وانتساخه،
َ قال في نفسه: م ْن ِ لهذا الأمر العظيم، والأدب النفيس، والخطب الجليل الذي يَ َّزيَّن به
َّ ملوك الهند دون ملوك فارس؟ وقد هممنا ألا َ ندع — مع بُعد السفر، وصعوبة الأمر،
2 هنا تنتهي مقدمة هذا الفصل التي تتفق فيه نسختنا والنسخة املصرية ونسخة شيخو بعض الاتفاق،
َّوأم َّ ا نسختا اليازجي وطبارة فليس فيهما من هذه املقدمة إلا تحميد في بضعة أسطر، ثم تُذكر فيهما
هذه املقدمة أثناء الفصل على أنها من كلام برزويه حينما اختاره كسرى للسفر.
3 تتفق النسخ هنا في الحديث عن أنو شروان، ولكن تختلف في السياق اختلافًا كبريً َّ ا، والعجب أن أقرب
النسخ إلى نسختنا هنا النسختان اللتان تخالفانها كل املخالفة في مقدمة الفصل، وهما نسختا اليازجي
وطبارة.
54
باب توجيه كسرى أنو شروان برزويه إلى بلاد الهند …
َ ومخاطر الطريق، وكثرة النفقة — طلَب هذا الكتاب حتى نصل إلى نَسخه، ونقف على
َّ إتقانه، ورصانة أبوابه، وعجائبه، ولا بد لنا من أن ننتخب من نُريد إرساله في ذلك من
ُ هذين الصنفني من الكتَّ َّ اب والأطباء، فإن ُ أهل هذين يجتمع عندهم جوامع من بحور
ٍؤدة ٍ ، وتجربة ِ ونفاذ ٍ حيلة، وتحفظ ٍ وتحرز، وكمال
ٍ الأدب، وكنوز الحكمة، في أناة وتُ
سر.
ِطف ٍ سياسة ِ ، وك ِ تمان ِ ٍّ
، ولُ
ٍ
ع
ُّ
ٍ وتصن
ٍ مروءة ٍ ، ودهاءٍ وفطنة، وحلم
فلما فحص الرأي فيما أجمع عليه، اختار في مملكته، وانتخب من علمائه، فلم يجد
4 وكان من رؤساء أطباء فارس ومن أبناء
ِرهربَد،
ْرَز َويِْه َبن آذَ
ً أحد َّ ا على نحو ذلك إلا بَ
َّ ا قد انتخبناك ملوضع حاجتنا، وتفرسنا فيك الخري،
ُم ِقاتلتها، فدعاه كسرى وقال له: إنَّ
َّوأم ُ لنا فيك أن تكون على ما أردنا من إصابة هذه الحاجة التي نحن م ِرس ِ لوك فيها؛ لما
ِبهما.
ِعل ِ منا عنك من الاجتهاد في العلم والأدب، وح ِرص َ ك على طلَ
ُ ونحن م ِرس ِ لوك إلى بلاد الهند لما بَلَ َغ ٍ نا عن كتاب عند ملوكها وعلمائها قد ألَّفته
العلماء، وهذَّبته الحكماء، وأتقنه الفُطناء، ليس في خزائن امللوك مثله، يستعني به على
ط ٍف، وتحمل
ُ عظائمهم ملوك الهند، فتعزم ِ على املسري بسببه فتستفيده بر ٍفق ٍ وتؤدة وتلَ ُّ
ِ معك من املال ُ ما أردت، ومن طَر ُ ف بلاد فارس وهداياها ما تعلم أنَّه يُعينك على
ِقد ُ ر عليه من الكتُ ُ ب التي يحتاج إليها امللوك، وليك ٍّ ن ذلك في سر
استخلاصه، مع ما تَ
مكتوم.
َ فإذا أكملت َ ما تريده وأنت في بلاد الهند كتبت ْ إلينا بذلك، وأسرع َت َ الوفود إلى
ُ ا م ِجز ُ لو عطيتك، ورافعو درجتك، ومبِْل َّ غوك فوق ما أم ِ لته من دولتنا، فبادر
حضرتنا، فإنَّ
َّ ت والتأني في جميع أمورك، فخر
ِم ُ رت، واحفظ ما و ِّصيت به، وليكن من شأنك التثبُّ
ُ
ملا أ
َّ ، سيجدني امللك كما أحب إن شاء الله، ثم نهض إلى
ً برزويه ساجد ً ا، وقال: سمعا وطاعةً
َّ منزله، فتخري ُ من الأيام أيمنها، ومن الساعات أبركها، وسار في اليوم املختار، فلم يزل
تخفضه أرض وترفعه أخرى حتى قدم إلى بلاد الهند، فأراح من وعثاء الطريق.
ُّ ثم إنه طاف بباب امللك، وتخلل مجالس السوقة، وسأل عن قرابة امللوك والأشراف،
وعن العلماء والفلاسفة، فجعل يغشاهم في منازلهم وعلى باب امللك، ويتلقاهم بالتحية
واملساءلة، ويُ ُ خبرهم أنه قدم بلادهم لطلب العلم والأدب، وأنه م ٌ حتاج إلى معونتهم على
4 في الأصل «أدرهرير»، ونظنها محرفة عن «آزرهربد» أي سادن النار.
55
ِ كليلة ودمنة
ِد ِ م له، وكنايته عنه،
ِ ما طلب من ذلك، ويسألهم إرشاده إلى حاجته، مع شدة كتمانه ملا قَ
َ فلم يز َ ل كذلك زمانً ً ا طويلا َّ ، يتأد ُ ب بما هو أعلم ٌ به، ويتعلم من العلم ما هو ماهر فيه،
ويكني عن بُغيته وحاجته.
واتخذ — لطول لُبثه وإقامته — أصدقاء كثريين من أهل الهند، من الأشراف
5
ُّ والس ِ وقة وأهل َّ كل صناعة، واختص ً من جماعتهم رجلا كان شريفً ً ا عاملا يُ َّسمى أزويه،
َ وكان صاحب ِّسر َّ ه ومشورته؛ ملا ظهر له من علمه وفضل أدبه، وصح له من إخائه
ومحض مودته، وفصاحة منطقه، وكان يُشاوره في جميع أموره، ويستريح إليه فيما
ُّم َّ ه، إلا أنه كان يكتُمه الأمر الذي هو بُغيته، وكان يبلوه باللطف لينظر هل يراه
ِه
يُ
ً موضع َ ا لإطلاعه على سره، فلم يزل يبحث عن ذات نفسه حتى وثِ َ ق به، وعِل َم أنَّه ملا
ِّ استودع من السر ٌ موضع ُ ، وفيما سأل م َشفِّ ع، وفيما استعان به عليه مجتهد، فازداد له
إلطافًا، فكان — إلى ذلك اليوم الذي رجا أن يكون قد ظفر بحاجته — قد أعظم النفقة
مع طول الغيبة وإلطاف الأصدقاء، ومجالستهم على الطعام، ومنادمتهم على الشراب
ٍ لطلب الثقات منهم، فلم يطمئن إلى أحد َّ منهم إلا إلى صديقه ذلك.
َّ وكان مما حك به برزويه صديقه ذلك ورازه وفتَّش عقله ووثق به واطمأن إليه
ً أن قال له يوما وهما خاليان: يا أخي، ما أريد أن أكتمك من أمري شيئًا فوق ما قد
ٍ ي لأمر ُ جئت، وهو غري ما ترى يظهر ُ مني، والعاقل َّ يكتفي من الرجل
كتمتُك، فاعلم أنِّ
ُ بالعلامات الظاهرة فيه، من نظره وإشارته بيده، فيعلم َّسر نفسه، وما يُ ِضمر عليه قلبَه؛
ُخبرك بما له جئت، وإياه طلبت، وأنت تكتم
ُ قال الهندي: إني وإن كنت لم أبدأك، ولم أ
ً أمرا تطلبه وأنت تُظهر غريه، فإنه لم يكن يخفى عليَّ، ولكن — لرغبتي في إخائك —
ُ كرهت ِ أن أواجهك بأنه قد ظهر لي ما تكتم، وأنه قد استبان لي ما أنت فيه وما تُخفيه،
ِ أمر ُ ك، وم ِعل ُمك حالك
َّفأم َ ا إذا افتتحت الكلام ُ فأنا م ِخبر ُ ك عن نفسك، وم ٌ ظهر لك سريرةَ
ِ الذي قد ِ مت عليه، فإنك قد َمت بلادنا لتسلُبنا علومنا الرفيعة وكنوزنا النفيسة، فتذهب
ُ بها إلى بلادك لتسرَّ بها ملكك، وكان قدومك باملكر، ومصادقتُ َّ ك بالخديعة، ولكن مل ُ ا رأيت
ُّظك من أن تسقط في الكلام — في طول
صبرك وطول مواظبتك على طلب حاجتك، وتحف
لُبثِ ُ ك عندنا — بشيء نستدل به على سريرة أمرك، ازددت رغبة في عقلك، وأحببت إخاءك،
َّ ذكر اسم هذا الرجل إلا َ في نسختنا ونسخة شيخو، وهو في الثانية: «أدَو ِيه».
5 لم يُ
56
باب توجيه كسرى أنو شروان برزويه إلى بلاد الهند …
ُ ولا أعلم ُ أني رأيت َ أوزن ً منك عقلا، ولا أحسن أدبًا، ولا أصبر على طلب حاجة، ولا أكتم
ٍ غري مملكتك، وعند قوم لم
ِّ للسر ُ منك، ولا أحسن خلُقً ُ ا، ولا سيما في بلاد غ ٍ ربة، ومملكة
ُ تكن تعرف سنَّتهم ولا أمرهم.
َّ واعلم أن ٍ عقل الرجل يستبني في أمور ثمان؛ الأولى منها: الرفق والتلطف، والثانية:
ِّ أن يعرف الرجل نفسه ويحفظها، والثالثة: طاعة امللوك وتحري ما يُرضيهم، والرابعة:
معرفة الرجل بموضع سره، وكيف ينبغي أن يُ ِطلع عليه صديقه، والخامسة: أن يكون
ُ على أبواب امللوك حَّوًلا أريبً ِّ ا ملق اللسان، والسادسة: أن يكون لسر ِّ ه ولسر ً غريه حافظا،
ً والسابعة: أن يكون قادر َّ ا على لسانه، فلا يلفظ من الكلام إلا َّ ما قد رو َّ ى فيه وقدره،
َّ ظهر من الأمر إلا ما يجب
ِج َّب إلا بما يُسأل عنه، ولم يُ
والثامنة: إذا كان في املحفل لم يُ
عليه.
ُ فمن اجتمعت فيه هذه الخصال َ الثمانية كان هو الداعي إلى نفسه الخريَ ِّ والربح،
َّ ب لنفسه الشر ُ والخسران، وقد كملت هذه الخصال بأسرها، وهي بيَّنةٌ ظاهرةٌ
واملجنِّ
ِسعف بحاجته، وإن حاجتك
ُ
ُ فيك، ومن اجتمعت فيه هذه الخصال شفِّ َ ع في طِلبَته، وأ
التي تطلب قد أرعبتني وأدخلت عليَّ الوحشة والخشية، ونسأل الله السلامة.
ِ فلما سمع برزويه بذلك تيقن أنه قد ظفر بحاجته، وأقبل عليه، وقال: يا أخي، لم
تُ ْخ ِط ِف َ راستي فيك في أول م َقدمي عليك، واستماعي جوابك، وإنما رميتُك بجملة كلامي،
ُ وإيجاز منطقي، ملا علمت ُ من ح َ سن منْقَبتك، وبُعد مذهبك، وغوصك على معدن الفطنة
والحكمة، فلذلك وثِ ُقت منك بحسن القول مني وقبول كلامي، وإسعافي بحاجتي، وإن
ُ بهم، أفضل ُعَّدة، وكذلك شبََّه ِت
ِّ إفضاءَ السر إلى العلماء والعقلاء وأهل العلم، والثقةَ
ِّ زيله الريح، ولا تحركه بكثرة
ُ العلماءُ م ِودع الأسرار عند أهلها بالجبل الشامخ الذي لا تُ
إذرائها، وأنت — بحمد الله — يَ ُدك عندي جميلة، عليها أعتمد.
َّ هته العلماء بغلاف القارورة املغطى عليها،
ِ قال الهندي: ح ُفظ الأسرار وكتمانها شبَّ
ِّرغت مما فيها فهي ثلاثة مشهورة
ِ زع الغ ِ طاء فجرمان اثنان، فإذا فُ
تراها واحدة، فإذا نُ
ٍّ ورأس الأدب حفظ السر َّ ؛ لأن َّ السر إذا تكلَّم به لسانان صار إلى ثلاثة،
6
ُ قد عِلم بها.
ُل الغيوم التي في السماء، إذا كانت
َ ه في ذلك مثَ
لُ
َ وإذا صار إلى ثلاثة شاع في الناس، ومثَ
َمثَل الزجاجة ليس في النسخ الأخرى.
6
57
ِ كليلة ودمنة
ٌ رجة، كذبهم قوم آخرون، وعلى
َّ متقطعة فاد ٌ عى ناس أنها مستوية ليس فيها خلل ولا فُ
النَّاظر تمييز صدق ذلك من كذبه؛ ولك عندي يا أخي — مع قُرب العهد بيننا — من
َّ أتخوف أن تَذيع أو
َّ الأيدي الكرام والألطاف ما أتذمم لذلك7 منك، وإنك تسألني حاجةً
ُ فط ٌ ن بها حاسد َ ، فيكون ِ ذلك فيه هلاكي واستئصالي، ثم لا أقدر على الافتداء بعَوٍض
يَ
ق ولا
ُّ
ٍ ولا مال ٍ ولا جاه َ ولا ع ٍون َّ ؛ لأن ُ هذا امللك سخطه أدنى شيء، ولا يُرضيه كثرةُ التمل
ُّ التضرع، فذلك دعاني إلى الانقباض منك والتأكيد عليك.
ِودع منه،
فْ َض ِّ ل الأشياء في الر ُ جال كتمان ِّ السر، وحفظ ما استُ
َ
ِ قال برزويه: م ْن أ
ُ فإنما نجاح ُ حاجتي بإذن الله في يدك، وكتمان ذلك في يدي.
َم َّسر صديقه، وهذا الأمر الذي
َّ إن ُ الع َ لماء قد مدحت الصديق َ إذا كتَ
8
قال برزويه:
ِقد ُمت ُ له، إياك اعتمدت ٍ به، وإليك أفشيته، ولن يتجاوز مني ومنك إلى أحد تكرهه وتخاف
ِ إذاعته وإفشاءه، وأنت تعلم أنك من قبَ َ لي آمن، ولكنك تتقي أهل ُ بلادك املطيفني بامللك
َّ شيعوا ذلك، وأرجو ألا ٌ يشيع؛ لأني ظاعن ُ وأنت م ُ قيم، وما أقمت فليس بيننا ثالث،
أن يُ
9
ُ عه الهندي فيما طلب، وأعطاه حاجته من الكتب، ودفع إليه كتاب كليلة ودمنة.
فشفَّ
ْسخها أقام على ذلك زمانً ُ ا عظَمت فيه مئونته
َّفلما وقع برزويه في تفسري الكتب ونَ
ِ ه، وسهر فيه ليله، ودأب فيه نهاره من الخوف على نفسه.
َ ونفقته، وأنص َب فيه بدنَ
َّم ِ ا فرغ منه ومن سائر الكتب وأحكمها، كتب إلى كسرى أنو شروان يُعلمه بما
فلَ
َ لقي ٍّ من التعب والعناء، وأنه قد فرغ منه ومن سائر الكتب، فأجابه كسرى في سر مكتوم
ِر َّ د عليه الكتاب، فتجهز برزويه، وخرج من بلاد الهند حتى
يأمره بالأوبة إليه ساعة يَ
َّ ورد فارس، ودخل على كسرى وخر ً له ساجد َّ ا، فلم ً ا رفع رأسه واستوى قائما رآه كسرى
َرَّق له وقال: أبشر أيها العبد املطيع
َ قد شح َّ ب لونه، وتغريت سحنته، وشاب رأسه، فَ
َ مولاه، الناصح مللكه، ببشرى صالحة، فقد استوجبت الشكر منَّا، ومن جميع الخاصة
َد َّ ك والنظر لك، ونحن صانعون لك أفضل ما رجوت وأملت، ثم
َدع رفْ
والعامة، فإنَّا لا نَ
أمره أن ينصرف ويُريح بدنه سبعة أيام ثم يأتيه، ففعل.
7 وضع الإشارة موضع الضمري هنا يشبه التعبري الفارسي.
8 َّ الظاهر أن ُ عبارة: «قال برزويه» ك ِّر ُّ رت في أثناء كلامه تأكًدا.
9 َ في النسخ املصرية ونسختَي اليازجي وطبارة أن هذا الهندي كان خازن امللك، ونظنُّها زيادة من بعض
َّ النساخ يُ ِّ راد بها تفسري يمكن هذا الرجل من كتب امللك

فلما كان في اليوم الثامن دعا به، وأمر أن يُ َحضر العلماء والأشراف من أهل مملكته،
وأمر بُ ُز ِرجِمهر أن يقرأ الكتاب على رءوس الأشهاد، فلما قرأ الكتاب وسمعوا ما فيه من
ُ العلم والأدب والأعاجيب التي حكوها على ألس َّ ن الحيوان والطري تعجبوا منه، وشكروا الله
على ما أنعم عليهم به من الأدب واملعرفة على يد برزويه، وأحسنوا الثناء عليه.
َّ ثم إن امللك أمر بأن تُفتح خزائن الذَّهب والفضة لبرزويه، وأمره أن يأخذ منها ما
ًدا، إنَّا بحمد
َّ أحب َ ، فسجد برزويه للملك، ورفع رأسه وقال: عشت ً أيها امللك حميد ُ ا مخلَّ
ِ الله قد أفادنا الله في دولة ِ املل ُ ك وبهاءِ م ِ لكه وعِّز سلطانه ما لم نأمله، وكل ما أنعم الله علينا
ُريد أن أسأل امللك حاجةً
به من الله، ومن امللك، ولا حاجة لي إلى شيءٍ من ذلك، لكني أ
ٌ يكون لي في قضائها ذكر ٌ وفخر، قال امللك: وما تلك الحاجة؟ قال برزويه: إن
يسريةً
رأى امللك أن يأمر بُ ُز ِرجِم َ هر بن البختكان أن يضع لي في رأس هذا الكتاب بابًا باسمي،
59
ِ كليلة ودمنة
ِ وينس َب ِ إليه شأني وفعلي؛ ليكون ملن بعدي عبرةً وتأديبً ُ ا، ويحيا به ذكري ما حييت في
َّ الدنيا وبعد وفاتي، فإنه إن فعل ذلك فقد شر َ فني وأهل بيتي آخر الأبد.10
َ فقال امللك: ما أهون ما سألت في جنب ما استوجبت! وتقدم إلى بُ ُز ِرجِمهر بأن
يضع له بابً ً ا وينسبه إليه على موافقة الحق؛ ليكون تحريضا ملن قرأه على طاعة امللوك،
ِّ ولا يقصر في إتقانه وتحبريه بغاية وسعه وطاقته.11 فقبل بُ ُز ِرجِمهر وصية كسرى في
ِ ذلك؛ ل ُ علمه بحسن رأيه في برزويه وإكرامه إياه، وأطنب في ذلك الباب، واجتهد في إتقانه
وترصيفه، ونسبه إليه، وذكر تنقله من حال إلى حال، وبحثه عن الأديان، والتماسه طلب
َّ الحكمة، ثم استأذن على امللك فقرأه بني يديه، فتعجب كسرى ومن بحضرته منه.12
ِ فمن قرأ هذا الكتاب فليعرف ُ السبب الذي و ِض َع ُ عليه كتاب ُ كليلة ودمنة، وحِّول
ْ من أرض الهند إلى أرض فارس، وليعرف َ فضل امللوك وطاعتهم، ويؤثرها على سائر
ْ الأعمال، وليعلم َّ أن َّ الشريف من شرفته امللوك، ورفعته في دولتها.
10 في النسخ الأخرى إطناب في حديث برزويه وامللك.
ُ في النسخ الأخرى إطناب في وصف امللك الباب الذي يضعه بزرجمهر، وفيها طلب امللك أن يُجعل هذا
11
الباب أول الأبواب.
12 في النُّسخ الأخرى وصف احتفال أنو شروان بقراءة «باب برزويه».
60
باب برزويه الطبيب1
من كلام بزرجمهر بن البختكان
قال بُ ُز ِرجِم َّ هر: إن َ برزويه رأس أطباء فارس، وهو الذي وِليَ انتساخ هذا الكتاب وترجمه
َّ من كتب الهند، قال: إن ِ أبي كان من املقات ِ لة، وكانت أمي من بنات عظماء الزمازمة،
وفقهائهم في دينهم.
ِّ د أبوي عليهما، وأنهما
وكان مما ابتدأني به ربِّ ِ ي من نَعِم ُ ه أني كنت َ من أكرم ولَ
َّفلم ُ ا بلغت ُ وعرفت أمر الطب
2
َّ أسلماني في تعليم الطب مل ُ ا صار لي من عمري سبع سنني،
وفضلَه، شكرت رأيَ ُ هما في ذلك، ورغبت ِ في تعلمه، حتى إذا شدوت منه ع ًلما، وبلغت فيه
ُ ما أمنت ُ له نفسي على مداواة املرضى وهممت بذلك، آمرت َّ نفسي وذك َّ رتها وخريتها بني
د ُ ون، فقلت ُّ : أي هذه
ُّ
ِج
الأمور الأربعة التي إياها يطلب الناس، ولها يَ ْسَع ْوَن، وإليها يَ
ِدرك منه حاجته؟
َ الخلال ينبغي ملثلي أن يلتمس؟ وأيها أحرى — إن هو بغاه — أن يُ
ُ آملال ُ أم اللذات ُ أم الصوت أم أجر ُ الآخرة؟ واستدللت َّ على املختار من ذلك، فوجدت الطب
1 َّ تتفق النسخ على أن هذا الباب من وضع بزرجمهر، وتتفق في سياقه وعباراته أكثر مما تتفق في البابني
السابقني، ونسخة شيخو تضعه بعد «باب بعثة برزويه»، وقبل «عرض الكتاب لابن املقفع»، والنسخ
الأخرى تضعه بعد «عرض الكتاب»، وتضع هذا بعد «باب بعثة برزويه» (انظر املقدمة).
2 َّ في النسخ الأخرى أن َّ أبويه أسلماه إلى املؤدب وعمره سبع سنني، فلما حذق الكتابة نظر فاختار الطب.
ِ كليلة ودمنة
ً محمود ُ ا عند الع ً قلاء، ولم أجده مذموما عند أحد من أهل الأديان وامللل، وأصبت في كتبهم
َّ ريد بذلك إلا ُ الآخرة، فرأيت َ أن أواظب عليه
َّ أن أفضل الأطباء من واظب على طبِّه لا يُ
أبتغي ذلك، ولا ألتمس له ثمنً َ ا، ولا أكون ُ كالتاجر الخاسر الذي باع ياقوتة كان مصيبًا
ِ من ثمنها غنَى الدهر بخرزة لا تساوي شيئً ً ا، ووجدت في كتبهم أيض َّ ا أن الطبيب املبتغي
بطبِّ ِّ ه أجر الآخرة لا ينقصه ذلك من حظ َّ ه في الدنيا، فإنما مثله في ذلك مثل الحراث
الذي يُثري أرضه ويَ ُعم َّ رها ابتغاء الز ٌ رع لا العشب، ثم هي لا محالة نابت ٌ فيها ألوان منه،
َد ْع ً مريض ُ ا أرجو له البرء وأطمع له في خفة
َ
ُ فأقبلت على مداواة املرضى رجاء ذلك، فلم أ
َد ُرت ُ على القيام عليه قمت ُ عليه وفعلت به
َ الوج َّ ع إلا ُ بلغت ُ في معالجته جهدي، ومن قَ
ِر ْد لشيء من ذلك جزاءً ولا مكافأةً ممن فعلته به، ولم أغبط
ُ
َّ ذلك وإلا وصفت له، ولم أ
من نُ َظ ً رائي ومن هو مثلي في العلم وفوقي في املال أحد َّ ا إلا بعني صلاح أو حسن سرية
ِّ وكنت أقر ِ ع نفسي إذا هي نازعتني إلى أن تغبط أولئك، وتتمنى
3
ً في الناس قولا ً وعملا،
َّ ك؟ ألا تنتهني
َّ ى لها إلا ُ الخصومة، وأقول ُ : يا نفس، أما تعرفني نفعك من ضرِّ
منازلهم، وآبَ
لْ َّ ه أحد إلا َّقل انتفاعه به وكثُر عناؤه فيه، واشتدت مئونته عليه عند
َّ عن الرغبة فيما لم يَنَ
َشرهني إليه
َسيْ ما تَ
نْ
تَ
ُ فراقه، وعظمت التبعة عليه بعده؟ يا نفس أما تذك َ رين ما أمامك فَ
ُ فيما بني يديك؟ ألا تستحني من م ُ شاركة الفجرة الجَّهال في حب هذه الفانية البائدة التي
ٍ من كان في يده منها شيءٌ فليس له ولا بباق َّ عليه، والتي لا يألفها إلا املغترُّون الغافلون؟
ِ يا نفس، أقصري عن هذا السفه، وما أنت عليه من خطل الرأي فيه، وأقبلي —
َّ بقو َ تك وسعيك وما تملكني — على تقديم الخري والأجر ما استطعت، وإياك والتسويف
َّ والتواني، واعلمي أن ٍ هذا الجسد ذو آفات ً ، وأنه مملوء أخلاط ِ ا فاسدة قذ ُ رة تجمعها
ُ أشياء م ٍ تعادية ُم ٍ تغالبة ِ تعمُد َّهن َّ الحياة، وهي إلى نفاد، كالصنم املفصل أعضاؤه
أربعةُ
ُخذ املسمار تساقطت
ُ إذا ر ِّك َ بت جَم ِ عها م ٌ سمار ٌ واحد وأمسك بعضها على بعض، فإذا أ
الأوصال. يا نفس، لا تغتري بصحبة أحبائك وأخلائك، ولا تحرصي على ذلك، فإنها على ما
فيها من السرور والبهجة كثريةُ الأذى واملئونات والأحزان، ثم تختتم ذلك بقطع الفراق،
ِ ستعمل في صحتها وجَّدتها في حرارة املرق وسخونته، فإذا هي انكسرت صار
ِكاملْغ َرفَة تُ
عاقبة أمرها إلى النار. يا نفس، لا يحملنَّك ما تريدين من صلة أهلك وأقاربك والتماس
3 ً في النسخ الأخرى: «وفوقي في املال والجاه وغريهما مما لا يعود بصلاح ولا حسن سرية قولا ً ولا عملا.»
62
باب برزويه الطبيب
ُّ رضاهم على جمع ما تهلكني فيه، فإذا أنت كالدخنة الطيِّ ُ بة التي تحترق ويذهب ِبَع ْرِفها
4 يا نفس، لا تغتري بالغنى واملنزلة التي
بالة تضيء لغريها باحتراقها.
آخرون، وكالذُّ
َّ تبطر أهلها، فإنها إلى انقلاب، وإن صاحب ذلك لا يُ ِ بصر صغر ما يستعظم حتى يُفارقه،
ُ فيكون َ كشعر الرأس الذي يُ ُ كرمه صاحبه، ويخدمه ما دام على رأسه، فإذا فارق رأسه
ِك َّ عن ذلك أن تقولي: إن
َّ ره وقز ِّ منه. يا نفس، دومي على مداواة املرضى، ولا يعوقْ
قذَ
ِّر ُج
َّ الطب ُ مئونة شديدة، والناس ُ بمنافعها ومنافع الطب جَّهال، ولكن اعتبري بمن يُفَ
ُّل َ به، ويستنقذه منها حتى يعود َّ بها إلى ما كان يكون فيه من السعة
ُتح
َ عن ر ُجٍل ُكربةً
َّ والر ٌ وح، فإنه أهل ُ لعظيم الأجر وح َّ سن الجزاء، فكيف باملتطبب الذي يفعل ذلك بالعدة
ُ التي الله أعلم بها، فيعودون — بعد الأسقام املِم َّض ِ ة والأوجاع الحائلة بينهم وبني لذات
ِ الدنيا من طعامها وشرابها وأزواجها وأولادها — إلى أحسن ما كانوا يكونون عليه من
َّ حالاتهم؛ فإن ٌ هذا خليق ِ بجزيل َّ الثواب وعظيم الر ُ جاء. يا نفس، لا يبع َّدن ُ عليك أمر
ُّ الآخرة الدائمة فتميلي إلى الدنيا الزائلة، فتكوني في استعجال القليل وبيع الكثري باليسري
كالتاجر الذي زعموا أنَّ ً ه كان له ملء بيت صندلا، فقال: إن أنا بعته موزونًا طال علي،
ِّ بأخس الثمن.
فباعه مجازفةً
ُ خاصمت َّ نفسي بهذا، وأخذتها به، وبصر ً تها إياه؛ لم تجد له نقضا، ولا عنه
5
َّفلما
َه ُ ت عما كانت تنزع إليه وترغب فيه، وأقمت على
ْ ا، فاعترفت َّ وأقرت، ولَ
مذهبًا ولا منصرفً
من الدنيا حظ ً ا جسيما
ُ مداواة املرضى ابتغاء أجر الآخرة، فلم يمنعني ذلك من أن أصبت ٍّ
ونصيبً ً ا عظيما من امللوك والأولياء والإخوان قبل أن آتي الهند، وبعد رجوعي منها، وفوق
ُ الذي كان طمعي يجنح إليه، وفوق ما كنت ً له أهلا.
ُ ثم نظرت في الطب فوجدت الطبيب لا يستطيع أن يُداوي املريض بدواءٍ يُذهب عنه
ُّ ه أو أشد ِ منه، فلم أدر
ً داءه، فلا يعود إليه أبدا ذلك الداء ولا غريُه من الأدواء التي هي مثلُ
َّ ؤمن عودته أو اعتراء ما هو أشد ُ منه، ووجدت عمل الآخرة
د ُ البرءَ بُرءًا، والداءُ لا تُ
ُعُّ
َ
كيف أ
هو الذي يُ َسلِّم من الأذى حتى يبرأ صاحبها بُ ُ رءًا يأمن معه من الأدواء كلها، فاستخففت
َمثَل الذُّبالة ليس في النسخ الأخرى.
4
َّ من قوله: «فلم ٍ ا خاصمت نفسي» إلى قوله: «فلما رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحد ً منهم سبيلا» ناقص
5
َّ في النسخ الأخرى إلا ُ نسخة شيخو، وكأنه حِذف ملا فيه من الكلام عن الأديان وغريها، ولهذا يرى بعض
َّ الناس أن هذا الباب كله من وضع ابن املقفع أراد أن يشكك به الناس في الدين (انظر املقدمة).
63
ِ كليلة ودمنة
بالطب وأردت الدين، فلما وقع ذلك في نفسي اشتبه عليَّ ُ أمر َّ الدين، أم ُ ا كتُب الطب فلم
َّ ني على أهداها وأصوبها، وأم ُ ا امللل فكثرية مختلفة
ُّ
ً أجد فيها لشيءٍ من الأديان ذكر ُ ا يدل
ُكرهوا
َّ ليس منها شيءٌ إلا ٌ وهو على ثلاثة أصناف: قوم ورثوا دينهم عن آبائهم، وآخرون أ
هم يَ ْزُعم أنَّ ُ ه على صواب وهًدى،
عليه حتى ولجوا فيه، وآخرون يبتغون به الدنيا، وكلُّ
َّوأن ٍ من خالفه على خطأ وضلالة، والاختلاف بينهم كثريٌ في أمر الخالق والخلق، ومبتدأ
ِ راج َع
ُ
ٌّ الأمر ومنتهاه، وما سوى ذلك، وكل ٍّ على كل ٍزار ٌّ ، وله عدو ٌ ، وعليه عائب ُ ، فرأيت أن أ
ِّ ناظرهم فأنظر فيما يصفون، لعلي ُ أعرف َّ بذلك الحق من الباطل
ُ
ِ علماءَ أهل كل ملَّة، وأ
ٍق بما لا أعرف، ولا تابع ما لا يبلغه عقلي،
فأختاره وألزمه على ثقة ويقني، غريَ ُم ِّصد
ُ ففعلت ُ ذلك وسألت ُ ونظرت ً فلم أجد أحد ُ ا من الأوائل يزيد ِّ على مدح دينه، وذم ما يخالفه
ٍ من الأديان، فاستبان لي أنهم بالهوى يجيبون ويتكلمون لا بالعدل، ولم أجد عند أحد
منهم صفةً ً تكون عدلا يعرفها ذو العقل ويرضى بها.
ُوافقه على ما لا
َّفلم ُ ا رأيت ُ ذلك لم أجد إلى م ً تابعة أحد منهم سبيلا ْ ، وعرفت أني إن أ
َزَعُم َّ وا أن جماعة من اللصوص ذهبوا إلى بيت رجل
ُ أعلم أك ِّ ن كاملصدق املخدوع الذي6
من الأغنياء ليسرقوا متاعه، فعلَ ً وا ظهر بيته ليلا َّ ، فانتبه صاحب البيت لوطئهم وأحس
ُ بهم، فعرف أنه لم يعل ُ ظهر بيته في تلك الساعة إلا مريب، فأيقظ امرأته وقال لها:
ْو ُ ا ظهر بيتنا، وأنا م ٌ تناوم ٍ لك، فأيقظيني بصوت
ً رويد َ ا! إني لأحس ُب اللصوص قد علَ
ِخبرُني عن أموالك الكثرية
َ رفيع يسمعه م ْن فوق البيت من اللصوص، ثم قولي لي: ألا تُ
ُ هذه وكنوزك من أين جمعتها؟ فإذا أبيت ِ عليك ِّ فألحي في السؤال، ففعلت املرأة ذلك،
ُ ، فكلي
ٍ
ٍ وسمع اللصوص كلامها، فقال الرجل: أيتها املرأة، قد ساقك القدر إلى رزق واسع
َّ واشربي واسكتي ولا تسألي عما لو أخبرتك به لم آمن أن يسمعه سامع، فيكون في ذلك
ِربنا أحد يفهم كلامنا، قال الرجل: فإني
َعمري ما بقُ
ما أكره وتكرهني، فقالت املرأة: لَ
ُمخبرك أني لم أجمع هذه الأموال والكنوز إلا من السرقة، قالت: وكيف كان ذلك وأنت
ٍ أصبته في
ِه ْمك ولم يَ ْسَترِ ْب بك أحد؟ قال: ذلك لعلم
ٌ في أعني الناس عدل ٌّ مرضي لم يتَّ
6 كلمة «الذي» هنا تُشبه أن تكون ترجمة الكلمة «كه» الفارسية، وهي تكون بمعنى الذي، وتأتي للتعليل
والتفريع، وينبغي أن يكون موضعها هنا: «فقد زعموا»، وفي النسخ الأخرى: «زعموا فيه» أو «في شأنه»
وهذا تصحيح للجملة بذكر الضمري العائد على املوصول لتوافق النحو العربي.
64
باب برزويه الطبيب
السرقة كان ألطف وأرفق من أن يتهمني أحد أو يرتاب فيَّ، قالت: وكيف كان ذلك؟ قال:
ُ كنت ُ أذهب في الليلة امل ِقمرة ومعي أصحابي حتى أعلو ظهر البيت الذي أريد أن أسرقه،
ُ فأنتهي إلى الك ُّ وة التي يدخل منها الضوء إلى البيت، فأرقي بهذه الر َ قية، وهي: «شولَم،
ُّ م» سبع مرات، ثم أعتنق الضوء فأهبط إلى البيت، ولا يحس ٌ بوقوعي أحد ُ ، ثم أقوم
َشولَ
ُّ في أسفل الضوء فأعيد الر ٌ قية سبع مرات، فلا يبقى في البيت مال ٌ ولا متاع إلا ظهر لي،
ُ وأمكنني أن أتناوله، وقويت ُ على حمله، ثم أعيد ُ ها وأعتنق الضوء وأصعد إلى أصحابي
َس ُّل ولا يشعر بنا أحد.
نْ
ِّ فأحملهم ما معي، ثم نَ
َّفلم ِ ا سمع اللصوص ذلك فر ِ حوا وقالوا: لقد ظ ٍ فرنا من هذا البيت بأمر هو خريٌ
ُّ َّ وا أن الرجل قد نام، ودنا
ِ لنا من املال، وأمنَّ ُ ا به من السلطان، وأطالوا املكث حتى ظن
ُ رئيسهم إلى مدخل الضوء من الكَّو َ ة، فقال: «شولَ َ م، شولَم» سبع مرات، ثم اعتنق الضوء
ُ لينزل إلى البيت، فوقع منَ َّك ًس ِ ا، فوثب إليه صاحب البيت بهراوة فأوجعه ضربًا، وقال له:
ِّ من أنت؟ قال: أنا املصدق املخدوع، وهذه ثمرة تصديقي.
ُ كة ع ُدت إلى البحث عن
َّ فلما تحر ِ زت من التصديق بما لم آمن أن يوق َ عني في مَهلَ
َد ِ أحد مَّمن كلَّمتُه — في جواب ما سألتُه عنه،
ِ الأديان والتماس العدل منها، فلم أجد عنْ
ا يحق عليَّ ُ في عقلي أن أوقن به وأتبعه، فقلت: أما إذا لم
ولا فيما ابتدأني به — شيئً ُّ
ِصب ثقةً ُ آخ َّ ذ منه فإن ُ الرأي أن ألزم دين آبائي، وهممت َ بذلك فلم أر ً لي فيه مخرجا،
ُ
أ
ُ ولا ع ًذر َ ا، فأردت التفرغ للعود
ُ ولا وجدت ً الثبوت على دين الآباء سبيلا ُ ، ولا لي فيه ح َجةً
ْرِب ِ الأجل وسرعته، وانقطاع
ُّ إلى البحث عن الأديان واملسألة عنها، فعرض لي تخو ُف قُ
َّ الدنيا وفناؤها، وفك ُ رت في ذلك الوقت وقلت َّ : أما أنا فلعل موتي يكون أوشك من تقليب
ْ ي ورج َ ع ج َّ فني على عيني ُ ، وقد كنت ً أعمل أمورا أرجو أن تكون من صالح الأعمال،
كفِّ
َّ لعل ُّ ترد ٍ دي وتنقلي وبحثي عن الأديان يشغلني عن خري كنت أفعله، فيكون أجلي دون
ما يطمح إليه أملي، أو يُ َ صيبني في ترددي وتحولي ما أصاب الرجل الذي زعموا أنه عِلق
َ ته، فحفرت له من بيتها سرَبً ُ ا إلى الطريق، وجعلت مخرجه عند ح ِّب
ِ ذات بعل وعلقَ
امرأةً
ٍ ا أن يفاجئها زوجها أو أحد وهو عندها، فبينما هي ذات يوم وهو عندها
ُّ املاء، تخوفً
َّ إذ بلغها أن َّ زوجها بالباب، فقالت للر ُ جل: اعجل واخر َّ ج من السرَ ُ ب الذي عند الح ِّب،
ُ فانطلق الرجل إلى ذلك املكان، فوافق الح َّب ُ قد رفع من ذلك املكان، فرجع إلى املرأة
ُ فقال: قد انتهيت ِ إلى حيث أمرت فلم أجد الحب، فقالت املرأة: أيها املائق، وما تصنع
ُ بالح ِّب َّ ؟ وهل سميته لك إلا لتستدل به على السرَب؟ قال: لم تكوني حقيقةً أن تذكريه
65
ِ كليلة ودمنة
ُ طيني به، فقالت املرأة: ويحك! انج بنفسك، ودع التردد والحمق، فقال: كيف
لي فتغلِّ
أذهب وقد خلطت عليَّ؟ فلم تزل تلك حالته حتى دخل زوجها فأوجعه ضربًا ثم رفعه
إلى السلطان.
ُ فلما خفت ِّ التردد والتحول رأيت ألا أتعرض لهما، وأن أقتصر على كل شيءٍ تشهد
ر ُ ، ويتفق عليه كل أهل الأديان، فكففت َّ يدي عن الضرب والقتل والسرقة
ِ العقول أنه بٌّ
ٌ والخيانة، ونفسي عن الغضب، ولساني عن الكذب وعن كل كلام فيه ضرر ُ لأحد، وكففت
عن أذى الناس والغيبة والبُ َّ هتان، وحص ِ نت فرجي عن النِّ َّ ساء، والتمست من قلبي ألا
ِح َّب له سوءًا، ولا أكذِّب بالبعث والحساب والقيامة والثواب
ُ
أتمنى ما لغريي، ولا أ
ُ حاء ج ُ هدي، ورأيت الصلاح ليس مثلَه
ُ والعقاب، وزايلت ُ الأشرار بقلبي، وأحببت ُّ الصلَ
َسبه — إذا وفَّق الله له — يسريٌ، وأصبتُه خريً َّ ا على أهله، وأبر
ٌ قرين ٌ ولا صاحب ُ ، ومكتَ
ُّ من الآباء والأمهات، ووجدته يدل على الخري، ويُ ِ شري بالنصح، فعل الصديق بالصديق،
ْخلَق على الابتذال
ُنفق منه، بل يزداد على الإنفاق ويكثُر، ولا يَ
ووجدته لا ينقص إذا أ
ُّ والاستعمال، بل يجد ُ ويحسن، ولا خوف عليه من السلطان أن يسلُبه، ولا من الآفات أن
ً ا، ولا من السباع افتراسا، ولا من
ِحر َ قه، ولا من اللصوص سرَقً
ِفسده، ولا من النار أن تُ
تُ
ُ ذي حَمٍة ً لدغا، ولا من الغارة، ولا من الجوائح. ووجدت الرجل الذي يزهد في الصلاح
لُه فيما
وعاقبته، ويُ َ لهيه عن ذلك قليل ما هو فيه من الحلاوة العاجلة النفاد، إنما مثَ
ِ ه كان له جوهر كثري، فاستأجر لثقبه وعمله
ُل التاجر الذي زعموا أنَّ
ُ ذهبت فيه أيام َ ه مثَ
ً رجلا ٍ بمائة دينار يومه إلى الليل، فانطلق به إلى بيته، فلما جلسا إذا بصنج موضوع،
ِ فنظر إليه، فقال له التاجر: أتحس ُن أن تَضرب به؟ قال: نعم، قال: فدونك، فتناوله وكان
ً ط جوهره مفتوحا وأقبل عليه.
ً به ماهرا، فلم يزل يُ ِسمعه صوتًا حسنًا مصيبً َ ا، وترك سفَ
ُ فلما أمسى قال: م ْر لي بأجرتي، قال: وهل عملت شيئً ُ ا؟ قال: نعم، عملت ما
أمرتني به، فوفَّاه أجرته، وبقي ما استأجره عليه غري معمول. فلم أزدد في أمور
سك، ووجدتهما
ً الدنيا نظر َّ ا إلا َ أحد َث ُ لي ذلك فيها ز ًهد ُ ا، ورأيت أن أعتصم بالتأله والنُّ
7 وشبَّ ُ هتهما الجنَّة الحريزة في دفع الشر
ِّ اللذين يمهدان للعباد، كما يفعل باملرء أبوه،
ُه السكينة،
تْ
َعلَ
الباقي الدائم، ورأيتُهما الباب املفتوح إلى الجنَّ ُ ة، ووجدت َّ الناسك قد فكر فَ
باب برزويه الطبيب
ِ وشكر فتواضع، وقن َ ع فاستغنى، ورضي فلم يهتم، وخلع الدنيا فنجا من الشرور، ورفض
ً الشهوات فصار طاهر ُ ا، وانفرد فك َفي َ الأحزان، وطرد الحسد فظهرت منه املحبة، وسخت
ُ نفس ٍ ه عن كل شيءٍ فان ِ فاستكمل العقل، وأبصر العاقبة فأمن من الندامة، ولم يُ ِخ ِف
ِم َن منهم، ولم يُذنب إليهم فسلم. فلم أزدد في أمر النُّ ُّ سك تفك ًرا إلا أحدث لي
َ
الناس فأ
ً عليه حرص ُ ا، فهممت َّ أن أكون من أهله، ثم تخو ُفت َّألا ِ أصبر ُ على عيشهم، وأن ترَّدني
ُّسك أن
ُ العادة التي جريت ُ عليها وغِذ ُيت َ بها، ولم آم ُ ن إن أنا خلعت ُ الدنيا وأخذت في الن
ُ أضعف عنه، وأكون قد رفضت ً أمورا كنت أعملها قبله أرجو عائدتها، فأكون كالكلب
َّ الذي مر ِ بنهر وفي فيه ضلَع، فرأى ظله في املاء فأهوى إليه ليأخذه، وترك ما كان معه
ُّسك هيبة شديدة، فأحجمت عن الإقدام عليه،
ِل ِ الذي طم ِ ع فيه. فهبْ ُت الن
فذهب، ولم يَنَ
ُ وخفت على نفسي من الضجر فيه وقلة الصبر عليه، ودعاني الهوى إلى الرضا بما كنت
َّ شفق ألا َ أقوى عليه من
ُ
َ عليه من حالي في الدنيا والثبوت عليها، ثم بدا لي أن أقيس بني ما أ
َ سك وبني الذي يصيب صاحب الدنيا من البلاء فيها، فكان يتحقَّق
الأذى والضيق في النُّ
ِّ اتها شيءٌ إلا وهو متحوٌل ً مكروه ُ ا وحزنًا، وأنَّه كاملاء
عندي أنه ليس من شهواتها ولذَّ
ً ا إلا ازداد به عطش َ ا، وكالع ِّ ظم املتعرق الذي يُصيبه
ِامل ُ لح الذي لا يزداد الظمآن منه شربً
ُ الكلب فيجد ُ فيه ريح لحم فلا يزال يلوكه، وك ً لما ازداد له نهش ً ا زاد كدوحا حتى يُ ِدم َي
ْضَعة من اللحم،
فاه، وهو لا يُ َ كثر التماس َّ ه إلا َجَر َح ِ ه وأدماه، وكالحَدأة التي تظفر بالبَ
فتجتمع عليها الطري، فلا تزال في تعب حتى تلفظها وقد أعيت وتعبت، وكالكوزة من
ٌّ العسل في أسفلها سم ُ ، والذائق لها م ُ صيب منها حلاوة عاجلة وفي أسفلها موت زعاف،
َ فرحه، فإذا استيقظ انقطع عنه ذلك، وكالبرق الذي يُ ً ضيء قليلا
وكأحلام النائم التي تُ
ا
ٍّ
ً ويذهب وشيك َ ا، ويبقى راجيه في الظلام، وك ُد َ ودة الأبريسم التي لا تزداد على نفسها لف
إلا ازدادت تشبُّ ًكا، ومن الخروج بُ ًعدا.
ُس ُ ك وخاصمتها، فقلت: ما يجوز
ُّ
َّفلم َّ ا فك ُرت ُ في ذلك راجعت نفسي في اختيار الن
ُّ َّ سك إلى الدنيا، إذا فك ُرت َ في شرورها وأحزانها، ثم أهرب منه إليها إذا
َّ أفر من الن
هذا، أن8
ِ ا ولا أعزُم
ِرُم رأيً
بْ
ُ
ُ تذكرت ما فيها من الضيق واملشقة، فلا أزال في تصرف وفي تقلب لا أ
ِّ ً ه

0 Reviews

Write a Review

Main Content